تـأويـل الـقـرآن

بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيم

( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ )

التأويل في اللسان العربي ، مشتق من آل، أولاً، ومآلا، بمعنى أرجعه إلى أصله، وأوّل الكلام بمعنى فسره ووضحه.
وهذا المعنى اللغوي يتفق مع بداية المعنى العرفاني، الذي يشير إلى أن التأويل هو المعنى الأول الذي نزل به القرآن في إشراق الروح على القلب الأمين : “نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ”، وهذا هو معنى الوحي والإيحاء، في رمزية ولطف من غير كلمات، لأن القرآن روح من عالم الأمر ” وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ” … هذا الروح هو النور الذي يمشي به في الناس، كل عارف مات عن نفسه وعن إرادته موتاً معنوياً، فأحياه الله جزاء وفاقا: ” أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ “
بهذا المعنى الدقيق، فإن التأويل هو المعنى الفطري الأول الذي يقوم علي الأصول المشتركة بين البشر جميعا المتمثل جماعها في سلامة القلب وصفاء العقل.
ولما كان التأويل يقوم علي قراءة القرآن، وتلاوته، وترتيله، وسماعه في انصات في اللحظة الحاضرة، يصير المعني الأول هو المعني الأخير في كل لحظة، بصورة متجددة… بهذا المعني فأن التأويل هوعمود الدين الحق، ومن ثم أساس الأديان جميعا.
نسبة لخفاء معاني التأويل ودقة مأتاه، فهو غير معلوم الا لدى القلائل، أما عامة المسلمين فانهم يقفون عند المعني اللغوي الظاهر، ولا قدم لهم في علوم الإحاطة، والمعني القائم وراء الحواس، ولذلك فانهم لا يعلمون التأويل، بل يكذبون به إذا أباح لهم بعض علومه المخفية، عارف من العارفين: ” بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۚ ” … وصاحب هذا القلم يرى أن يوم التأويل قد جاء : “يوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ “.
بمجئ التأويل تفك رموز كلمات القرآن، بجديد المعاني وغريبها وبديعها بصورة لم تكن تخطر لنا على بال، فندرك ادراكاً جديداً معانى اليوم الآخر والملائكة والشياطين والجن وابليس والقيامة والساعة والحشر والنشور، وما الي ذلك من المعاني الرفيعة.
بمجئ التأويل يرفع التشابه البادي في السطور في ظاهر القرآن… ولعل الذين إطلعوا على القرآن بروية وتدبر وتأمل، يجدون أن بعض الآيات تشير إلى أن كل القرآن متشابه فى صورة ثنائية : ” اللَّـهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ” ثم أن بعض الآيات تشير إلى ان القرآن بعضه متشابه وبعضه محكم: ” هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ” … وبعض آيات أخرى تشير إلى أن كل القرآن محكم: ” الر ۚ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ” … يبدو في ظاهر الأمر أن هناك بعض التناقض، ولكن في حقيقة الأمر، ليس هناك تناقض ، وانما التناقض في عقولنا، التي تُلقي ما كسبت على حواشي قلوبنا، فتحجب عنا نور التأويل .
فمن كان قلبه محكماً، رأى كل آيات القرآن محكمة، وذلك هو التأويل الذى هو أصل الكتاب، وقد عبر عن ذلك تعبيرا لطيفا بقوله ” مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ” … ومن كان قلبه متشابها مشوباً بالثنائية رأى كل آيات القرآن متشابهة ذوات أبعاد ثنائية.. ومن كان قلبه متأرجحا بين التشابه والإحكام، تارة يرى آيات القرآن محكمة ، وتارة يراها متشابهة، حسب صفاء وقته.
بصفاء الوقت تنبثق من أعماق قلوبنا، أسرار القرآن على صفحات عقولنا، فيعلمنا الله من لدنه علما … هذا العلم اللدني هو علم التأويل المذكور بعض أطرافه في قصة العبد الصالح صاحب الرحمة العندية الذي قاد النبي موسي فى شعاب مشارف الربوبية وباحات الرحمة الالهية “فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا” … بفضل الله وبفضل هذه الرحمة الواسعة يتعلم الراقي في هذه المدارج القرآن من الرحمن من غير حجاب ” الرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ القرآن”… ولا يتعلم القرآن بعدئذ من أى بشر كائناً من كان كما هو معلوم من قوله ” وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ”
غني عن البيان ان التأويل من علوم الاحسان ” نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ ۖ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ”. ولما كان الاحسان هو مقام رؤية الله، فاٍن الله قد ادخر لأهل الاحسان علوم الربوبية، التى يستحقها كل من علم الكتاب ودرسه “كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ” … هؤلاء الربانيون هم أولو الأرحام فى كتاب الله المشار اليهم فى قوله ” وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّـهِ ۗ” … أولو الارحام اشارة الى رحم الرحمن معلم القرآن، وقد عبر النبي الكريم تعبيراً بليغاً عن كل هذه المعاني الرفيعة في أحاديثه القدسية.
بالتأويل تبرز علوم القرآن المكنونة، بصورة تناسب التطور الهائل الذي طرأ في حياتنا وتزيد عليه، وبذلك يحل السلام فى كل نفس بشرية، وغني عن البيان ان السلام قد صار فى عالمنا المعاصر حاجة حياة أو موت.
من أجل إبراز هذه الحقيقة الكبرى فقد وظفنا أنفسنا، لبيان ما يسمح به حكم الوقت من التأويل، بالكلمة المسموعة والكلمة المقروءة، وأصدرنا في ذلك العديد من الرسائل والكتب والمحاضرات، مثبت معظمها في هذا الموقع، مع تسجيل للمحات تأويل جميع آيات القرآن الكريم، في طبقاتها المتنوعة ومستوياتها وسبحاتها العليا، المبثوثة في هذا الموقع أيضا.
ونسبة لأن العلم بالتأويل يكون بفضل الله وبفضل البحث الفردي، والتأمل في مكث وروية، فإننا نأمل أن يجد القراء الكرام المتعة والفائدة في متابعة محتويات هذا الموقع، اذ أنها تلقي بعض الضؤ علي معاني التأويل الدقاق، وفي هذا للمجتهد بداية وللمقتصد نهاية.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

بدرالدين يوسف دفع الله السيمت
كتبه بتاريخ اليوم 14 من فبراير عام 2013