الحلقة الأولى (3-2)

حرف الألف

القرآن حديث في اللحظة الحاضرة .. فلماذا يعيش المسلمون في الماضي ؟
القرآن نور وسلام وحرية .. فلماذا يعيش المسلمون في ظلام وحروب وعبودية ؟
 
١ – هذه الحلقة تستهدف ما استهدفته حلقة “شجرة الملكوت وطيور السماء” في القاء الضوء على سلسلة نظرات في حروف التكوين وتتبع النور الذي أنزلت به وأنزل معها
٢- القرآن حديث في اللحظة الحاضرة بضرورة انه كلام الله … والله حاضر وموجود في كل جزئية من جزئيات الزمان وجزئيات المكان والتي لدى التناهي ليست شيئا غيره، إذ لوكان هناك وجود غير وجود الله بطلت وحدانية الخالق وتفرده بالهيمنة المطلقة … الله في الإسلام حق محقق في كل لحظة عند كل من يعلم ( وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ) .. وبهذا الحق أنزل القرآن ونزل القرآن روحاً، من عالم الأمر في لحظة واحدة ( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا ) ثم قال ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) ومن هنا كان القرآن نوراً مبيناً لا يأتيه الماضي من خلفه ولا المستقبل من أمامه
٣- القى الحديث الضوء على هذه الآية ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ) كيف يكون المؤمنون في الظلام والكافرون في النور ؟ وردت الإجابة، ان سر ذلك يكمن في ان جميع الناس في اللحظة الحاضرة بالضرورة التكوينية، وتعليل ذلك مبسوط في متن الحديث .. يضاف الى ذلك ان الطاغوت يعني تجاوز العقل لحدوده وقدراته وخوضه فيما لايعلم… ومن هنا فإن العقل يوحي للمؤمن الإيمان المتصور عقلياً، فيخرج المؤمن من نور اللحظة الحاضرة الى وادي الظلام … فإذا تولاه الله خرج من الظلام الى النور .. بنفس القدر فإن الكافر في نور اللحظة الحاضرة، ولكن طاغوت العقل يوحي اليه الكفر، فيخرج من النور الى الظلمات
٤- لهذا السبب العتيد، فإن القرآن يربط برباط وثيق الطاغوت بعدم التمييز، المعبر عنه بالعمه (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ) الإيمان يكون بالنظرة الاولى، والتي هي دائماً في اللحظة الحاضرة … ولكن تراكم المرئيات بتسجيلها في العقول، ثم الإعتماد على الذاكرة، يؤدي الى تقليب الأفئدة الثابتة في اللحظة الحاضرة، وتقليب الأبصار هو الإنحراف من نور البصيرة الواحدة … وكل ذلك يتم بفعل الطاغوت .. ومن دقائق المعاني، ان كلمة الطاغوت وردت ثماني مرات في القرآن، وكذلك وردت كلمة الافئدة… وتلك مقابلة لطيفة … هذا فضلاً عن ان القرآن عالج موضوع ( التمييز ) وتفريق المعاني، وجمعها في اتساق ويسر، عكس ما يجري في الأديان الأخرى … فليراجع ذلك من يشاء في مظانه
٥- بالرغم من كل هذا البيان المفصل الواضح، فقد ظل المسلمون على مدى القرون يقرأون القرآن بعقول متذبذبة بين الماضي والمستقبل، وهذا هو سر التناقض في ماضي المسلمين الدامي بالحروب والشقاق، وفي حاضرهم الذي هو إمتداد وتعميق للجراح والمآسي القديمة … من هنا، فان فهم القرآن فهماً عميقاً، بترتيله، وتلاوته، وسماعه بإنصات في اللحظة الحاضرة، وقراءته بقراءة الله ( فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) قد صار ضرورة ملحة من اجل انقاذ المسلمين من تصوراتهم العقلية، التي صارت خطراً عليهم، وعلى الإنسانية الموبوءة بتعقيدات أخرى، تختلف في التفاصيل من مشاكل المسلمين، ولكنها تتحد معها في الجوهر
٦- من أجل هذا الفهم العميق، الذي يؤهل الناس للخوض فيما وراء الحروف وهذا يعني التأويل – اي “رد الكلمات الى معناها الأول والأخير عندالله” – فقد جاءت كل كلمات القرآن وحروفه محكمة احكاماً لا ريب فيه، ومتسقة اتساقاً، يخرج القارئ البصير من الظلمات الى النور … قد تم كل ذلك بفضل التوحيد الذي ينظر الى الثنائية بواقعية .. فهم الثنائية بأنها نهر العذاب الأليم الذي لا يخفف ( خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ ) .. عذاب واصب وان تخللته بعض الملذات ( دُحُورًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ ) … صراع الثنائية ينتهي بالموت .. الفهم العميق لطبيعة الثنائية، والمبين بياناً مستفيضاً في القرآن، يجعلك ويجعلني، نفهم معنى بؤس الإنسان وضياعه، مما يزعجنا للفرار من صراع الثنائية الأليم الذي لا ينتهي بين الخير الذي جذوره مستمدة من تصور الشر .. التخلي عن الثنائية هو التحلي بالوحدانية في ذات الوقت، بوقوف حركة الفكر، والدخول في وادي الصمت العميق والسكون الأبدي
٧- بالصمت والسكون نعيش في اللحظة الحاضرة ونشعر شعور حسياً متصلاً بالخفة والنشاط بالسبح في الوادي المقدس ( الآن خفف الله عنكم ) وتتجلى لنا ارادة الله التي كانت مخفية عنا بذبذبة عقولنا بين الماضي والمستقبل، الأمر الذي اكسب نفوسنا الضعف البشري، الملازم لطبيعة الثنائية ( يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا)… هذا السكون المحض معبر عنه بالدين الواصب في مقابلة العذاب الواصب ولم ترد كلمة واصب الا في هذين الموضعين، وبذلك قام القسط بين السموات، حيث سكون الراحة والروح والريحان، والأرض، حيث حركة العذاب والألم والبؤس ( وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ۚ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ )
٨- الدين الواصب هو علامات في طريق غير مطروق، ولكنه موضح في آيات، مما يثبت ان النبي الكريم قد بلغ التأويل بلسان بليغ، وقد كان حوله عارفون وعارفات، سيماؤهم في وجوههم، من اثر سجود المعاني، التي كانوا يسألون بها عن الروح وعن الساعة اي اللحظة الحاضرة… ولكن هذا التاريخ المجيد قد طالته ايادي الحرق والتقتيل والتحريف، ولكنه ظل آيات بيات في الصدور ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ) … ورد في متن الحديث بعض التفاصيل في معنى التوراة ( تواً رأى ) والإنجيل ( من الأنجال ) ومن ذلك جاءت كلمة الملائكة الإنجليزية Angels .. كما ورد حديث عن معارج السلوك في المراقي العلية، بالرصد بين الماضي والمستقبل حتى يرى الرائي اللحظة المقبلة تذوب في الماضي وفي التو، فيعيش صاحبها في ( اللازمن ) وهذا هو معنى اقامة الكتاب ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ۗ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ۖ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )
بتنزيل كل الكتب وخاصة القرآن، ( كتاب الكتب ) من اللاشئ، حياة وعلماً وارادة وقدرة وسمعاً وبصراً وكلاماً، ينبت من الصمت، ويخرج الى الماضي والمستقبل، اخراجاً جديداً في كل لحظة ( وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا ).. اخراجاً يكون صلاة دائمة وسكونا متصلاً ويكون كل يوم هو يوم الدين .. وهذا معنى استيفاء السلوك في سقر، الذي يتساءل عنه أولو الألباب ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ* وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ* وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ* وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ* حَتَّىٰ أَتَانَا الْيَقِينُ ) وباليقين يرى الناس جحيم الثنائية فيرتفعون عنه ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ )
وعلى الله قصد السبيل..
 
بدرالدين يوسف السيمت
٢٤ ابريل ٢٠٢١
إشترك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات
0
نرحب بمشاركتك في التعليقاتx
()
x