الحلقة الثانية (3)

حرف الباء

ما هي البينة ؟ وما هو الذي يبين ؟ ومن هو الذي يبين ؟
ما هو البعث ؟ وما الذي يبعث ؟ ومن الذي يبعث ؟
كيف طوى البقاء بين جناحيه البينة والبعث ؟
مواصلة سلسلة نظرات في حروف التكوين وتتبع النور الذي أنزلت به وانزل معها
 
١- لا بد ان يثور في ذهن الباحث الجاد، قبل ان يبحث في أي شئ، ان يعرف من هو الباحث وماذا يريد من بحثه .. وليس هناك اي معنى اذ لم نحدد البينة التي نبتغي ان تبين لنا … ولا معنى للحديث عن البعث اذا لم نحدد مالذي يبعث، وما الذي يبقى .. من غير ان نعرف الأرض التي نقف عليها، ومن غير ان نعرف أنفسنا، فليس هناك معنى لأي بحث ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ )
٢- وردت كلمة البينة تسعة عشر مرة في القرآن، في اشارة بليغة الى الزمن، المكونة ايام اسبوعه من سبعة أيام، وشهور سنينه من اثني عشر شهرا … وبملاحظة بسيطة يظهر لنا ان عقولنا تعتمد على الذكريات الماضية .. بمعنى آخر ان عقولنا هي الزمان داخلنا، وان الزمان هو عقولنا خارجنا … فإذا وضعنا عقولنا جانبا، أي جعلنا الماضي ماضياً، كما هو في الحقيقة، نجد ان اجسادنا شيئا القاه ربه على كرسي عرشه ( وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَدًا )
أجسادنا شأنها شأن الاشياء الأخرى، والكيانات المتنوعة المبثوثة في هذا الكون من جماد ونبات وحيوان، باختلاف في مقدار وشكل التكوين في طبقات ومستويات متناقضة تارة ومتسقة تارة، ومتقابلة تارة، ومتدابرة تارة اخرى ( لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ )
٣- من اجل فهم التناقض والانسجام في نفوسنا، وصف القرآن شيطان النفوس، بأنه ( عَدُوٌّ مُّبِينٌ ) ثماني مرات، في مقابلة عجيبة بين مغارب العقول التي تواري الربوع، ومشارق القلوب، التي هي برق لموع، له في السرائر طلوع… العداوة ضرب من ضروب التناقض العقلي… والإبانة هي التناسق القلبي… وهذه العداوة البينة الواضحة، تكون في تدرج وخفاء ثم خفت ثم خفض ثم خطأ.. هذا التدرج هو خطوات الشيطان. ولم ترد كلمة خطوات في القرآن إلا مقرونة بالشيطان، لهذا السبب العتيد
٤- الكون هو الكتاب المبين ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) أو ( وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )… اذا وضح هذا المعنى بطول النظر، حتى يحس الناظر، أنه جزء لا يتجزأ من الكون، يتضح لنا ان موتنا الحسي، لا يعني شيئا سوى سقوط الجزء في الكل، مثلما يفقد احدنا اطراف اظافره عندما يقلمها لعدم الحاجة اليها، أو لاستنفادها الغرض الذي كانت موظفة بتأديته
٥- شعورك وشعوري بأننا جزء من الكون، يجعلنا نطل على الغموض المجهول كمسألة واقعية محسوسة.. هذا الشعور الصادق هو رسول من انفسنا، وهو البينة التي تجعلنا في حالة انفتاح على معنى البعث الكلي( يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا ) البعث الكلي، هو بعث الكون بمعنى العبودية، وبمعنى الفردية… هذا المعنى النفيس مذكور في قوله ( إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا* لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا* وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) ويتم كل هذا في لحظة واحدة، وفي نفس واحدة، يجتمع فيها خلقنا المحدود ببعثنا الكلي ( مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ) ويتم هذا كل يوم، وإن كنا لا نعلم ذلك ( فَهَٰذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَٰكِنَّكُمْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )
٦- البينة في الآفاق تكون بينات في النفوس ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ ) ثم تستقر في الصدور ( بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ )… مع كل هذا البينات الواضحة، فإن الناس ظلوا يكذبون بها، لأنهم يقرأون بعقولهم المتذبذبة بين الماضي والمستقبل، فلا يرون كتاب الكون المنير المتجلي أمام ناظريهم في كل لحظة حاضرة ( فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ )
الكتاب المنير هو كتاب التأويل المحجوب عنا بحجاب الكلمات، ولا ندري بهذا الكتاب العظيم، إلا اذا جعل الله الكلمات نوراً نهتدي به في ظلمات الكون، أي وعيا يبين لنا به غموض الكون ( مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَٰكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا ) والزبر المشار إليها في الآية السابقة تعني الكتب المنقوشة في الحجر، والموجودة بكثرة في السودان، وإن كان اهل السودان لا يعلمون ذلك، مع انهم، يمرون عليها مصبحين ( وَبِاللَّيْلِ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ) ثم قال ( وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ )
٧- البعث الروحي هو بعث الحياة في كل لحظة عن بينة ( وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ) وهو أيضا هلاك حياة الماضي والمستقبل عن بينة ( لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ ) وهذا لا يتحقق لنا، إلا عندما نشعر، في كل لحظة اننا نحن الكون الذي يلفه الغموض ( بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ) فنرى لأول مرة الكون في ضلال مبين … كتلة مكانية واحدة، مرتتقة اجزاؤها ( أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا ) لا ندري من اين جاءت، والى اين ذاهبة ولماذا ؟
اذن الكون في ضلال مبين يسحر الناظرين .. فاذا لبثنا طويلاً مع هذا السحر، تتبين لنا الثنائية الحقيقية بين الكون المعلوم والغموض المجهول ( خَصِيمٌ مُّبِينٌ )
كلما امعنا النظر، شعرنا بحركة افكارنا في دماغنا، التي هي حركة الساحر المبين الذي يتلون ( ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ )
فإذا استقرت مدركات العقول في طوايا الصدور، شعرنا بسكوتنا يسحر السحر ويحركه ( لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ ) وهذا هو السر في تلون كلمة مبين في وصف حركة العقل لأكثر من ثلاثين مرة في القرآن الكريم ، حتى تجول كلمة ( مبين ) في سورة يس سبع مراتٍ، تنتهي وتستقر في قوله ( وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ)
٨- ( وَكُلَّ شَيْءٍ) هو البقاء، وهو وجه الله الباقي ( وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) البقاء هو البعث والبينة في ذات الوقت
الشئ الباقي ( الكون ) الذي لا يوجد غيره … الكون هو اللاشئ وهو الله ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ) وهو هو احساسك، بالغموض الكوني الذي يبين لك في أفقك ( وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) .. هذه الوحدة الزمانية المكانية الذاتية، تذهب عنك الخوف، لانتفاء وجود شئ غيرها ( لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَىٰ ) فترتفع في الحال والتو فتكون بالافق الأعلى ( وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ ) ولم تذكر كلمة الأفق الا في هذين الموضعين… ومن هنا تصير كل آفاقك نورا مشرقا على نفسك ، ويعود ربك حقا مبيناً في صدرك، مشهوداً فجراً دائماً، من غير علامات، غير نور يملأ الأفقا ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )
ولم تذكر كلمة الآفاق في القرآن الا مرة واحدة، في هذا العلو المنيف، والمقام الشريف، مقام خطيب الأزل، الذي صعدنا إليه فنزل ( وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ).
 
بدرالدين يوسف السيمت
٣٠ مايو ٢٠٢١
إشترك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات
0
نرحب بمشاركتك في التعليقاتx
()
x