الحلقة الثانية (1)

حرف الباء

اضواء على سحر بابل والأجساد المشيدة على بئر القلب المعطلة التي هي موطن العلة في بؤس الانسان وشقائه ومخرج نجاته في ذات الوقت
مواصلة سلسلة نظرات في حروف التكوين وتتبع النور الذي انزلت به وأنزل معها
 
١- الحرف في ذاته ليس له معنى، وانما يجئ المعنى المحسوس بإضافته الى حرف آخر، بأسلوب مصطلح عليه ليشير الى ذات الشئ، أو لأحاسيسنا ومشاعرنا نحو الأشياء والأحياء … أما غير المحسوس فيكون بإنقلاب الحرف واختفائه في جوف الصمت والسكون، وهنا يظهر مجد القرآن وعجائبه ( ق ۚ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ* بَلْ عَجِبُوا ) من هذه الرمزية البسيطة، يتضح للناظر البصير، ان القرآن ليس فكراً عقلانياً، يعتمد على الذاكرة المحسوسة بالحواس الخمس، ولكنه يتجاوز المحسوس، ثم يطل عليه من ورائه في غموض وخفاء، تنجلي معانيه، وتنكشف رموزه، حقاً مبيناً في كل لحظة ( وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ ) ولا يجئ الفكر البشري، الا بعد ان يبين نور عقلك لك علامات ورموز الدنيا والآخرة ( كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ*فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۗ) ونور عقلك هو الله، لأن الله محض نور، واصل كل نور في السموات والأرض ( اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) .. لهذا السبب العتيد فإن فهم حروف القرآن وكلماته، لايبدأ بالفكر البشري والإعتماد على معطيات الحواس، وانما يبدأ بالسماع والانصات، لأن السماع والانصات، لا يكونان الا في اللحظة الحاضرة ( وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ) ترحمون اشارة الى السعة التي هي سمة الصمت، وذلك هو الرحمن ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) والرحمن هو معلم القرآن ( الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ )
٢- وما ينطبق على السماع والإنصات لحروف القرآن وكلماته، ينطبق على السماع والإنصات لكتاب الكون، في شموسه ونجومه وشجره وبحره … وسوف يجد السامعات والسامعون ذكراً لذلك في مقابلات لطيفة للحرفين ( حم ) في مطلع سورتي الزخرف والدخان، تنكشف فيهما في لحظة واحدة ( فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ) رموز الكتاب المبين الذي هو كتاب الكون ( وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ) وقد توكد هذا المعنى في قوله ( وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )
بطول النظر في كتاب الكون في الآفاق، وموالاة السماع لاصدائه في طيات النفوس، يتضح ان القرآن ليس مجرد كلمات، ولكنه جعل في قوالب كلمات اللسان العربي لنستعقل، وجود مصدره، وراء الكلمات، ووراء الزمان ( إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ) أي أعلى وأحكم من أن يكون مجرد كلمات في أصله المشار اليه ب ( أُم الكتاب )
٣- اول كلمة في حرف ال ( ب) هي بابل اي باب إيل اي باب الله المخفي في حرف ( اللام ) الذي هو حرف ( الف) الواحدية المعكوف والمفتوح على الإطلاق.. وقد وردت كلمة بابل مرة واحدة في القرآن، و وردت مقرونة بالسحر الملائكي النوراني، الذي تختطفه شياطين العقول، فَتُفرِِّق به بين المرء وزوجه اي بين المرء والله ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ) والله هو زوجنا الذي هو اقرب الينا من حبل الوريد في كل لحظة، وان كنا لا نعلم ذلك ( سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ) هذا السحر البابلي، يعتمد على تلون معطيات الحواس، وردود افعالها، المعبر عنه بهاروت وماروت، ويأجوج ومأجوج وطالوت وجالوت … هذا التلون، يجعلك ويجعلني، ندور في الظلام، في سور الكلمات والحروف، دون ان نرى الباب الواسع الباطن، في رحمة الرحمن حيث الله، وحيث المعنى الحقيقي للقرآن، أي تأويله ( فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ) ولو كنا نسمع او نعقل، فإننا سوف نسمع معطيات الحواس، تقول لنا في كل لحظة تعلمنا فيها علماً من علوم الثنائية ( وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ ) …
٤- السحر البابلي، يمنعنا من رؤية باطن الباب، ويوقعنا في قعر بئر الظلام … البئر هي الكلمة الثانية التي تبدأ بحرف ال (ب)، ولم ترد الا مرة واحدة في القرآن، ولكنها كانت جامعة ومانعة، ومعطلة لنور قلوبنا، التي ظلمت عروش عقلها، قرية أجسادنا ، التي شيدت قصرها، في الأيام الخاوية في دهاليز النسيان ( فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ) في قعر البئر المظلم تعمى القلوب، فلا نستطيع السير في طبقات عقولنا، بقلوب عاقلة، أو آذان سامعة ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ )
٥- بئر الظلام مربوطة بعذاب البؤس .. ولذلك فإن عقولنا لا تهوي على عروشها في قعر بئر الظلام مباشرة وبعيون مفتوحة، وإنما تسحب الى ذلك العمق السحيق، وهي معصوبة العينين، بسلاسل الآمال وأغلال الرغائب وسعير المطامع، ويتم ذلك بتدرج وتقلب، مرتباً ومرتلاً ترتيلاً، في كل آيات القرآن الكريم وحروفه .. وحرف ال (ب) ليس بدعاً في ذلك، فتكون سلاسل الرغائب مبثوثة وفي نمارق منمقة مصفوفة، ويكون ناس الحواس حولها كالفراش المبثوث، حتى تبس جبالها رياح الأيام بساً ( فَكَانَتْ هَبَاءً مُّنبَثًّا ) فيقلب باخع نفسه، على آثارها أسفاً، على بخله، وما انفق فيها وهي خاوية على عروشها
٦- العقل الإنساني بطبيعته التكوينية القائمة على الزمان، لا يدرك محدوديته، ولا يبصر قيود ايامه، التي جعلت حظه حظاً محجوزاً بين السدين، سد الميلاد خلفنا، وسد الموت أمامنا ( وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ )
والعقول البشرية لا تبصر النور الأزلي، الا بعد ان تدرك ان عجلة ايامها قد بتكت آذانها التي تسمع النعمة الواحدة ( وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ ) وما كانت عقولها تستطيع ان تفعل ذلك، إلا بعد ان باعت سيارة قافلتها، يوسفها بثمن بخس دراهم معدودة … عندئذ يبدأ غراب النفس في البحث عن حقيقة ارض العقل ( فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ )
٧- البحث في حقيقة العقل هو الذي يبتر كل شين ( إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ )… هذا لا يتفق لنا الا اذا تأملنا ملياً في معنى البؤس، المذكور بتنوع في القرآن الكريم، والمبثوث بصور واضحة في الوجود المحسوس … البشر بأسهم بينهم شديد، فقلوبهم قد شتتها المطامع ( بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُون ) و نحن نراهم كل يوم ( وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ) في الحروب وفي ظلم الإنسان لأخيه الإنسان اقتصادياً واجتماعياً … الخ مما هو مشاهد ومعروف
هذا البحث يقودنا الى فهم تناويع البؤس بفروعه المختلفة في الورود والصدور، ( وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) و ( بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ) تقود الى مصير محتوم، هو جهنم كما هو واضح من قوله ( وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ )
جهنم هي رمز الشمس التي صدرت منها الأرض بطينها ومائها .. الإعتماد على الحواس يقودنا الى هذا المصير، الذي نركض منه ولا نواجهه كلما احسسنا به ( فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ )
مواجهة مصيرنا، يجعلك ويجعلني في حالة صمت، لا نبدي فيها المستقبل ولا نعيد فيها الماضي، لانه يظهر لنا عدم جدوى ذلك لمعرفتنا بالمصير الذي ننتهي فيه
٨- الوقوف والتأمل في بؤس الإنسانية وضياعها، يقود الى رؤية يقينية بجحيم محدوديتنا ( كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) مما يورثنا صمتاً متصلاً، مرموز اليه في القرآن بالتبتل والإنقطاع، الذي يحس بشدة وطأة نشأتنا في ظلمات ليل الزمان بالقول القويم بوضوح نهار الإشراق ( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا* إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا* وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ) بهذا التبتل نصبر على خواطر نفوسنا و افكارها و وساوسها، هجراً جميلاً، لا ينتظر اي شئ لإدراكه اليقيني، بأن حياة الحواس المحدودة هي حياة البأساء والضراء، وذلك معنى دقيق من معاني النبوة ( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ ) ثم قال وحي النبوة ( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ).
 
مركز دراسات التأويل
بدرالدين يوسف السيمت
٢٢ مايو ٢٠٢١
إشترك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات
0
نرحب بمشاركتك في التعليقاتx
()
x