الحلقة الأولى (6)

حرف الألف

مزيد من الأضواء على كلمة ( الإنسان ) و ( الأمر ) في القرآن
مواصلة سلسلة نظرات في حروف التكوين
 
١- يلاحظ ان المتحدثين في الدين اعتماداً على النقل والعقل، لا يشعرون بالتناقض .. سبب ذلك، أنهم يفتقدون أساس الدين الصحيح، الذي يقوم على التقوى ” التجرد من ال “أنا”، كما يفتقدون “الرضوان ” الذي هو قبول الأمر الواقع، والتسليم للإرادة الوجودية … التجرد يكسب الإنسان السكون، والرضوان يكسب الإنسان الاتساق مع الوجود ( أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ ) … بغير هذا الأساس المتين، يكون بنياننا العقلي قائماً على الشك في القلوب منبع النور والكمال ( لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ )
٢- مقدرة البشر على تسجيل حوادث الزمان، وصور الأشياء والأحياء، في عقولهم، مع المقدرة على تذكر كل اولئك، جعل الإنسان بمثابة ذاكرة الوجود .. يضاف الى ذلك ان التركيب المعقد للجسد الإنساني، المكون من عناصر الأرض المتنوعة، جعل الإنسان كأنه الأرض في جمعية و كمون … فوق ذلك فإن حواس الإنسان بطبيعتها التكوينية، تنظر وتسمع في اللحظة الحاضرة، مما جعل خلق الإنسان على صورة كاملة ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ) … ولقد جاء النقص والخسران للإنسان، من اعتماده على الزمان، المخزون في مستودع عقله، مما جعله يعيش في الماضي، في تناقض مع اللحظة الحاضرة ( وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) العصر اشارة للتردي في شعاب الزمان، وتأكد ذلك في آيات عديدات، اشملها قوله ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) ثم، تشير الى التراخي في الزمان
٣- رسم القرآن طريقا يشير الى الصعود من أسفل سافلين حيث ابليس في ظلمات الوجود، إلى أحسن، تقويم حيث الله، حيث لا حيث ( إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )
ولذلك جاءت كلمة الإنسان، في منازل عديدة، فذكرت كلمة الإنسان (٦٥) مرة للتمثيل على كثرة الذبذبات في عقولنا في المدارج المختلفة، عسى ان نراقب حركات عقولنا التي لا تهدأ، و نظفر بالسكون والأمن
٤- بمراقبة حركة الفكر في عقولنا، نستطيع ان نكتشف الدقة المتناهية للقرآن، في وصف هذه الحركة، بين المدح في القمة، والذم في القاعدة … بكثرة المراقبة، نستيقن ان جميع آيات الذم، هي مدح في قالب ذم … كثرة المراقبة، تؤدي الى المشاهدة والحضور في اللحظة الحاضرة ، فيستوي عندك الخلق والأمر ( أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ) بفضل الله، وبفضل بقائك في اللحظة الحاضرة، مع العلم الأكيد بقوله ( وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ) … ومن عجائب القرآن، ان كلمة ( جديد ) لم ترد الا مع الخلق في ست مواضع، وكلمة ” جديداً ” وردت مع الخلق مرتين فقط، فتلك ثمانية تامة، في اشارة بليغة الى اللحظة الحاضرة، التي هي الأمر نفسه ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)
٥- في متابعة صفات النقص في الإنسان، وملاحظة ذلك في مجاري الفكر في عقولنا، يتذوق الحاضر فينا، بؤس الإنسان وشقائه وعذابه المستمر، طالما بقي أسيراً للزمان .. معايشة هذا الذوق الرفيع، يجعلك ويجعلني، نرتفع فجأة الى الأعالي .. فمن منا يستطيع ان يعيش في هذا النقص ! في معيشة ضنكاً، وخلقا في كبد ! . صفات النقص الانساني في القرآن جاءت واقعية، يمكن ان تلحظها في نفسك، وفي من حولك، وفي الناس جميعاً .. على سبيل المثال : هلوعاً، جزوعاً، ظلوماً، جهولاً، قتوراً، يؤس، كنود، يطغى عندما يستغنى …. الخ فمن منا يريد ان يبقى في هذا الجحيم ! وهذا العذاب الأليم ! … تذوق العذاب، لا يجعلك تفكر في إنقاذ نفسك فحسب، وإنما في إنقاذ الإنسانية جمعاء، لأن الفرد البشري يحكي قصة النوع بأجمعه ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ) أو كما قال التجاني :
أطل من جبل الأحقاب محتملاً سفر الحياة على مكدود سيماه
وفي ذلك اشارة بليغة للزمان ” الأحقاب ” وإلى تخزين الزمان في عقولنا ثم المكابدة في شقائنا بما نخزن ” على مكدود سيماه”
٦- جميع الملاحظات، التي المعنا اليها القول آنفا، تلخص سعي الإنسان العقلي، المقيد بالحواس والذي ينتهي في الخسر، الذي هو ” الجحيم “، عندما نتذكر ( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ ) ولا يرى إلا سعيه ( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَىٰ * وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ) ثم يجزاه الجزاء الأوفى، إشارة إلى التراخي في الزمان، الذي ينفقه الإنسان، لبلوغ منتهى فكره في ربه … ولقد وصف القرآن، زمان التراخي، وصفاً دقيقاً، سماه كدحاً فوق كدح ( يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ ) وأخواتها، وهن كثرُ، يتعرجن في الخصام المبين، والشئون، والاسئلة، والوسوسة، حتى يتعلم الإنسان البيان، ويعلم انه نور ذاته ( بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) وذلك هو عالم الأمر ، الذي تم القاء الضوء، على شئ من نوره في متن الحديث المسجل ( نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ)
٧- إزالة الثنائية البادية، بين عالم الأمر وعالم الخلق، كائنة في كل لحظة.. ولكنك لا تشهدها، إلا عند شروق شمس التأويل في عقلك، فتترك الأمر لصاحب الأمر ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) ومن روائع القرآن المجيد ان كلمة ( أمري ) وردت ثماني مرات، إشارة الى كمال الحضور ، بفناء امرك في أمره في ( الآن ) وفي ( الحال ) ( لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ) فقل، بقول الله ،على لسان الرسول ( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ۗ )… هذا الأمر ميسر بالتقوى، التي تريك ان أمرك، هو امر الله، النازل في الناس جميعاً ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا * ذَٰلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ ) هنا يرفع وهم الإلتباس، بزوال الوسواس الخناس، الذي قلَّب لك الأمور، حتى غفلت عن أن الأمور، راجعة لرب الأمور ( وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ) ونحن إنما غفلنا، لأن الماضي اثقل سرعة عقولنا، فلم تساير في المطالع قلوبنا، فظل أمرنا يعقب على أمر الله، وظل قلم القدرة القديم جارياً بقوله : ( وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ )
٨- ومن أجل إزالة الغفلة، تم تنويع كلمة ( الأمر ) بتفعيلات كثيرة، عسى الا يكون طرفك أعمى عن تناويع الأشاير المبثوثة، وفي نمارق الكلمات مصفوفة، وفي سرر المعاني مرفوعة .. تأمل طائفة منها في واحدة كلمح بالبصر (أمرتك ، أمرتني ، أُمرت ، تؤمر ، أمرنا ، يأمركم ، أُمروا ، تأمرون ، لآمرنهم ) … ثم قف طويلًا، ولا تمر مروراً عابراً على قوله ( وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) ، فإن فعلت، فقد أتيت البيوت من أبوابها ( وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ).
 
مركز دراسات التأويل
بدرالدين يوسف السيمت
٦ مايو ٢٠٢١
إشترك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات
0
نرحب بمشاركتك في التعليقاتx
()
x