ماهي الثنائية وماذا يعني تجاوز الضدية ؟
مواصلة سلسلة نظرات في حروف التكوين وتتبع النور الذي أنزلت به، وأنزل معها
١- نحن لا نتحدث عن الثنائية بتعقيداتها الفلسفية أو الميتافيزقية، وإنما نتحدث بصورة مباشرة عن الثنائية في العقل البشري المنقسم في ذاته، بين تصوراته من تراكم الذاكرة أي المفكر أو ال ( أنا )، وبين الكون الخارجي وما فيه من أشياء وأحياء أي الموضوع .. نحن نعتقد إعتقاداً خاطئاً، أن ذواتنا البشرية وما عندها من أفكار، تختلف عن الموضوع الخارجي، أي الفكرة تختلف عن المفكر، والمتصور يختلف عن تصوراته .. نحن نرى أن هذه الثنائية وهم من أوهام العقول، لأنها تستند على الذاكرة، أي على الماضي الذي لا وجود له في اللحظة الحاضرة .. وبتدقيق النظر كل لحظة يتضح لنا أن الشاهد هو المشهود ( وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ) والفكرة هي المفكر
وما الذات البشرية، إلا هي موضوع من ضمن المواضيع، لأن الجسد جزء لا يتجزأ من المكان، والعقل البشري جزء لا يتجزأ من الزمان ..
٢- الثنائية الطبيعية بين الحار والبارد، والمر والحلو، والظلام والنور إلخ .. هذه الثنائية الطبيعية، لا مشكلة فيها، بل هي سر التطور، لأن كل طرفين يتوحدان في حركة ثالثة، هي نفسها تشكل في ذاتها، طرفين يتوحدان وينقسمان بصورة غير متناهية، في الجدل الطبيعي في تفاعل العناصر مع بعضها بعض … ومن هنا جاء التعدد
ليس هناك مشكلة في التعدد وتنوع الكائنات، ولكن المشكلة تقع بتدخل الإنسان بثنائيته العقلية التي هي سبب صراع المتناقضات في صوره العديدة بين ( العندهم ) و ( الما عندهم )
٣- أعلى صور التناقض في العقل البشري هي صورة التناقض بين الخالق والمخلوق … العقل البشري يرى الأشياء مفرقة في المكان، ويرى اللحظات مفرقة في الزمان، ولذلك فإن الإرادة البشرية تفرق بين الله ورسله ( وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ ٱللَّهِ وَرُسُلِهِ ) ورسل الله هم الكائنات كلها:
تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى اليك رسائل
القرآن يوحد بين الخالق والمخلوق في كل كلماته وفي كل حروفه.
إذا كنا نسمع القرآن في اللحظة الحاضرة، فإننا ننظر موت اللحظة القادمة، إذ أنها هي اللحظة الماضية … ننظر لحظات الزمان تجئ في اللحظة الحاضرة، فيراها العقل محدودة، فيسميها ( المخلوق )..
وتموت اللحظة الماضية في اللحظة الحاضرة، فيراها العقل مطلقة، فيسميها ( الخالق )
وعند التحقيق نرى وحدة الخالق والمخلوق ( وحدة الوجود )
وهذه بمخلوق وتلك بخالق تسمت وفي التحقيق أين التغاير
٤- في نفس الوقت، فإن الذي نظر إلى اللحظة المقبلة الموعودة هو العقل البشري، والذي نظر إلى اللحظة الماضية الواقعة هو العقل البشري .. إذن الوعد هو الواقع ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ) … والذي نظر الواقع هو الواقع … إذن المنظور هو الناظر
تجليت لي في كل شئ ولم أكن سواك فمنظور كما انت ناظر
على سبيل المثال ، فقوله ( وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ) تتذكرون ألم عذاب الثنائية المستمر، والذي ينتهي بالموت، فتفرون من الضدين إلى الله الذي لا ضد له، لأن اللحظة الحاضرة لا ضد لها
٥-بطول التأمل في حركة الفكر في عقولنا، يستيقن المتأمل أن الظاهر ( الإنس ) لا يختلف عن باطن العقل ( الجن ) .. هذا هو السر في تقديم الجن على الإنس في سائر آيات القرآن، إلا في المواطن التي يقتضي السياق تقديم الظاهر على الباطن.. هناك مواطن ذكر فيها الباطن وحده، فجاء ذكر الجن بدون الإنس في ثماني مواقع ليشمل حركات الوجود وسكناته التي هي عرش الخالق الذي فرش فيها مخلوقاته في ذاته بذاته (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) بصورة متساوية يكون العلم فيها هو العلم بكل شئ، لأن الأول في ظاهرها هو الآخر في نفس الوقت ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) وهذا هو علم التأويل المحيط الذي يكذب به كل من وقف مع ثنائية العقل البشري ( بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِۦ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ )
٦- هناك مواطن ذكر فيها الظاهر وحده، فلم يرد ذكر الجن .. وهناك مواطن تقتضي تقديم الظاهر على الباطن، فقدم الأنس على الجان … تم كل أولئك بصورة متناسقة، دون إخلال للقواعد الرفيعة، في تسلسل المعاني … ويمكن للمستمعات والمستمعين، متابعة وحدة المعاني وشواهدها من مباني الآيات التي تم الإستدلال بها في متن الحديث المسجل المرفق … بطول التأمل بصبر ومثابرة وموالاة، في حركة الظاهر حولنا، والباطن فينا، يتضح للناظر أسرار تقديم الجن على الإنس وتقديم الإنس على الجن وذكر الجن بدون إنس وذكر الإنس بدون جن في مواضع متسقة بصورة لا تتخلف .. ولكنك سوف تظل في شكوك الثنائية ولاتستطيع أن تذكر الله، ما لم تذوق عذاب الثنائية وألمها وبؤسها وضياعها ( بَلْ هُمْ فِى شَكٍّۢ مِّن ذِكْرِى ۖ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ )
٧- ولن تستطيع أن تدرك أن هذا العذاب الأليم، هو رياح البشرى بين يدي الرحمة ( فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) إلا إذا شعرت وعشت الضعف البشري كل لحظة .. هذا هو الذي يخفف عنك ألم العذاب الذي يحمله عنك ربك في كل لحظة في إرادته النافذة التي لا تتخلف لحظة ( يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا) ولكنك لا ترى هذه الإرادة النافذة إلا إذا عشت هذا الضعف البشري في اللحظة الحاضرة ( الآن ) وليس غداً ( الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ) عندئذ تعلم أن وقوفك كثيراً في هذا الضعف البشري المصاحب لقوتك، هو الذي يقودك بصورة مباشرة وفورية إلى العلم بقدرة الله الطاوية لقدرتك المخلوقة من مادة الضعف ( ثُمَّ جَعَلَ مِنۢ بَعْدِ قُوَّةٍۢ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ۖ وَهُوَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْقَدِيرُ ) .. هذا ( الطوى) الذي طوى الوادي المقدس، طي الطاقة الكبيرة في المادة الصغيرة مثلما طوى القرآن الآية في الكلمة والكلمة في الحرف والحرف في النقطة والنقطة في اللاشئ الذي هو الله ( حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ ) فالله عندك وعندي والله هو الوارث الذي نرثه نحن جميعاً ( وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ) وراثة منة من غير أسباب ويعلم ذلك كل من عاش الضعف البشري المطوي في القدرة الإلهية ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ فِى ٱلْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ ٱلْوَٰرِثِينَ )… وهذا هو السر الذي تجده مبثوثاً ومكنوناً في حديثي المسجل المرفق الذي توكد فيه أن القرآن ذكر ضعيفاً أربع مرات وكذلك الضعفاء وكذلك المستضعفين وكذلك محمد .. كلهم ذكروا أربع مرات، نزلت على محمد صاحب القرآن، وصاحب الحكمة، وصاحب علوم الضعف البشري المجهولة ( وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمُ ۚ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)
٨- فإذا ذكرنا أننا قليل مستضعفون في الأرض، يتخطفنا ناس الخوف، بجنوده الفقر والجهل والمرض والموت، فإن الله سيكون مأوانا وناصرنا ويرزقنا علوم اللحظة الحاضرة في كل لحظة ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) عندئذ وعندئذ فقط تنفق كل ما في عقلك من أفكارك وتضعها في مكانها في الماضي في دهاليز النسيان والعدم وأنت واثق أن الله خليفة العدم ومعدنه وجوهره ( وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ )
وسر الرزق بغير حساب مثبت في حديثي المسجل، فاصبر عليه بغير حساب، تجد أن علمي هو علمك وقد رددته إليك .. فما اعلمتك إلا بالذي بين يديك . .. فسلام عليك، وسلام علي، وسلام على عباده الذين اصطفى .. ثم ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) تنتهي ثنائيتك في ربك ( وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ).
مركز دراسات التأويل
بدرالدين يوسف السيمت
٢ مايو ٢٠٢١
إشترك
Login
0 تعليقات
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات