١- كل علوم القرآن تقع في الحروف، وماوراء الحروف، حيث الصمت والسكون ونهاية الثنائية ( إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ )
الحروف هي غطاء الكلمات، والكلمات غطاء المعاني التي نعتمد فيها على معطيات الحواس الخمس … الإعتماد على معطيات الحواس الخمس، دون الإنتباه الى ماوراء ذلك هو الغفلة … الحضور هو مراقبة الغفلة بكشف حجابها في كل لحظة ( لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ )
٢- القرآن رمز للعقل الظاهر ب ( الإنس ) وللعقل الباطن ب ( الجن) وإنما هما عقل واحد .. القرآن في الأساس خطاب للعقل الباطن في اللحظة الحاضرة، ولهذا السبب فإن القرآن يقدم الجن على الإنس في سائر آياته، بل يذكر الجن في بعض المواقع دون إشارة للإنس … هناك مواضع قدّم فيها الإنس على الجن لأن السياق يقتضي تقديم الظاهر على الباطن، أو يذكر الإنس وحدهم لذات السبب
٣- على سبيل المثال فإن قوله ( وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الْإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا ) يشير إلى أن المتعة الحسية الظاهرة متعة مؤقتة ( وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا) تزول عند انقضائها ولكننا نسترجعها بالذكريات وهذا هو معنى قول التجاني :غم
قضت اللذة فاسترجعها لمح ظنونيمن ترى استأثر باللذة واستبقى جنوني
٤- هناك لذة دائمة لا تنقضي مذكورة في قوله ( وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ) وهذا يعني الموت في كل لحظة، بمراقبة اللحظة المقبلة التي تصير اللحظة الماضية في ذات الوقت .. بإدمان المراقبة ومعيشتها في كل لحظة، يكون الناظر حياً في ( اللازمن ) في سكون متصل ولذة متجددة … هنا يستيقن المشاهد، أن القرآن حديث في اللحظة الحاضرة، جرى على اللسان النبوي، وقد كان محمد عليه السلام محض حضور
٥- الشهود الدائم لموت لحظات الزمان تكتمل ثمرة من ثماره برفع الحجاب النبوي في الآية التي تلي مباشرة آية النظر في الموت ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ … )
ويمكن للمستمعات والمستمعين، متابعة بقية المواضع القرآنية، التي تم فيها رفع الحجاب النبوي، فإن في ذلك تنوير للباطن وحرية للظاهر
٦- معيشة اللحظة الحاضرة، تعني الحضور مع الله بلا غفلة، وهي الحالة التي كان عليها محمد عليه السلام، دون أن يسيطر على أحد، ودون أن يكون وكيلا ًأو حفيظاً ( وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ )
هذه الحالة الشريفة هي صلاة الأصالة، التي كان يتحدث عنها الأستاذ محمود محمد طه، إلا أن هذا الموضوع لم يكن ظاهراً، لأن الأستاذ محمود تنزل إلى طريق محمد، مراعاة لمستوى المخاطبين .. وقد أجلينا هذا الموضوع في كتابنا “وذكرهم بأيام الله” .. وهذا هو نفس الموضوع الذي كان يتحدث عنه كرشنا مورتي، في حالة العقل الصامت المتحرر من كل القيود، و الذي أخفاه تشويش المدارس الهندوسية الأخرى، الغارقة في مراسيم التأمل، ورياضات اليوغا، دون عيش في اللحظة الحاضرة وتحقيق لحياة اللازمن.
ونفس هذه الحالة الشريفة هي مرتبة تأويل القرآن .. ولكن الناس سيظلون في شك من هذا، إلا إذا ماتوا موتاً معنوياً في كل ساعة ( وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ )
٧- حياة اللازمن، هي الحركة الثالثة المتسامية على الخير والشر ، والتي تذوق فيها النفس الموت كل لحظة، بالرجوع إلى الله ( كُلُّ نَفْسٍۢ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) .. في متن الحديث كانت هناك ملاحظة لربط القرآن ربطاً وثيقاً فعل الاستمرار والإسم الفاعل ( ذائقة ) و ( النفس ) و ( الموت) بصورة ثابتة .. فليتابعها من شاء فإن في ذلك متعة وفائدة
واسترسل الحديث لبيان التسامي على الثنائية في ترديد قوله ( فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ) في سورة الرحمن، وإني لأرجو الوقوف عنده ونحن شهود.
وسيظل الشك قائماً، في فهم الحالة الثالثة، وتذكرها في كل لحظة، ما لم نتذوق العذاب ( بَلْ هُمْ فِى شَكٍّۢ مِّن ذِكْرِى ۖ بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ )
وقد تم إجلاء هذا الموضوع في سورة
القمر
٨- في سورة القمر ورد قوله ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ ) في أربعة مواضع، ولكن قبل كل موضع كان القرآن، يستنهضنا لمعرفة كيفية العذاب ثلاث مرات، بقوله ( فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ ) فإذا استوعبنا كيفية العذاب جيداً، خاطبنا في المرة الرابعة لتذوق العذاب بقوله ( فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ )
بتذوق العذاب، تكون النجاة من ثنائية الخير والشر بمجئ المدكر الذي يعلم التأويل في استرسال من جميع القيود ( وَقَالَ ٱلَّذِى نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا۠ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِۦ فَأَرْسِلُونِ )
وفي الختام كانت هناك لطائف، في معرفة حالة الحضور، و أضيفت اشراقات العارف النابلسي لتجليات الأستاذ محمود و بيان كرشنا مورتي. .. وآية الآية، في معرفة هذه الحالة، زوال الخوف والحزن، بصورة لاتتبدل في الحياة الدنيا وفي الآخرة ( أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
بدرالدين يوسف السيمت
٣٠ أبريل ٢٠٢١
إشترك
Login
0 تعليقات
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات