الحلقة الأولى (2)

حرف الألف

١- نواصل المضي قدماً في العلم والدراسة في طريق الربوبية في سماء الروح والقلوب (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ)… بالتعليم تتمدد الحروف في الكلمات والمعاني، وبالدراسة تختفي الحروف والكلمات والكتب في سماء الصمت المطوية وراءها ( يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ) … بمعنى آخر فإن النذارة المتنزلة، والبشارة التي انزَلتها، يستويان في مرتبة الحق ( وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ۗ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ) … هذا السير المجيد في الفراغ وراء الحروف، يستوجب صبراً وثباتاً على الصبر ( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا )
٢- على هذا الأساس تفرقت حروف القرآن في الكلمات والآيات والسور، وتعددت وجوهها، ولكنها ظلت ماكثة أبداً، دون ان تفقد جمعية صمتها في كل كلمة، ودون ان تفقد سكونها في كل حركة، تنزيلاً بعد تنزيل ( وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَىٰ مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا)
٣- وكلما استرجعنا كلمات القرآن وحروفه في ليل سرائرنا، زال الغموض في نهار جهرنا.. فكلمة ( أبّا ) يزول غموضها هونا ما، ويصير معناها فاكهة وفرحا، ومتعة ونعمة، كلما حدقنا النظر، بصورة تغلب فيها كل نظرة اختها ( وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَّتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ) … هذا بعض من تأويل الطعام المطلوب النظر فيه، والتحديق في باطنه ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ )
وما يقال عن ( أبّا ) يقال عن ( أبداً ) وما تنطوي فيه من أحاديث الزمان، وسعة المكان، في مجموعتنا الصغيرة ( المجموعة الشمسية ) التي هي مجرد دورة من دورات الوجود … ويلحق بمعنى ( أبداً ) المعني الإبراهيمي، حيث المقامات القويمة، والأيدي الطويلة، التي لا تصح صلاة الا في باحات مقامها ( وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى )
٤- وفي معارج هذا الطريق اللاحب، نعود للفعل ( أتى ) الذي تم تفعيله في اكثر من مائة تشكيلة، مما يقتضي عدم الإستعجال ( أَتَىٰ أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ) … من هذه التشكيلات البديعة ( آتية ) التي تفيد الإستمرار في كل لحظة .. لهذا السبب لم ترد (آتية ) الا مقرونة ب ( الساعة ) التي تعني اللحظة الحاضرة، وكان ذلك في خفاء لمن لم يكمل سعيه، وفي ظهور لمن وفى واستوفى سعيه ( إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ ) … ومن استوفى سعيه، يأتيه الفهم أكيدًا لقوله ( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ ) .. هنا نفهم فن السؤال بالنظر الدائم للسائل ( سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) … والسائل دائما هو القرين الذي لا يستطيع ان يخرج من العذاب داخل كونه المحدود بالشمس والنار .. في هذا المقام ورد بيان لمعنى قول بوذا “انني لا أعرف الكثير عن كنه الإله، ولكنني أعرف الكثير عن بؤس الانسان” فليتمسه السامعون في موضعه
٥- فهم الثنائية، وتتبعها في جميع مجالي فرحها الذي يعقبه حزن، ومتاع حياتها التي يعقبها موت، ينتهي بنا الى محبة البعد الآخر ( الله ) ومحبة كل دليل يدل عليه (رسوله) محبة دائمة وقائمة في كل لحظة ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه )
ومن حرف الألف المقرون ب ال ( ت ) نعرج الى حرف ال ( ث ) حيث يشتد عودنا في تتبع الآثار، حتى يأتينا صدقنا، بالكلمات المكتوبة في الكتب، او المنقوشة آثارا في الحجارة ( ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَٰذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ) فنتعلم الإيثار وترك ال ( أنا ) التي تخطط لنا سيرنا، وتخصصه في غايات محدودة ( وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ۚ )
كل ذلك يقود الى فهم معنى ( الإثم ) الذي هو ذنب وجودنا، فنذره ظاهراً وباطناً ( وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ ۚ ) .. والإثم هو الأثل القليل، عندما يتم تأويل أكلنا وطعامنا ( ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ )
٦- ومن الثاء، نطير خفافاً الى حرف الجيم، في جوار الرب العظيم، فنرى ماء النفوس الذي كنا نشربه، فتجده أجاجاً ( لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ) بالشكر اي بزيادة ولوجنا في الصمت القائم وراء الحروف ( لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ) نجد ماء النفس سراباً، حجب عنا الله العظيم، في معركة ( اللاشئ ) اي معركة في غير معترك ( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ )
هل تريدون الحق ! ليس هناك اجر الا المحبة والمودة لأقرب الأقربين، الله العظيم ( قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ )
ومن هنا فارق العبد العليم، موسى الكليم، عندما سأل عن اجر بناء جدار اليتيم، مثل فراق الحرية للعبودية ( قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَٰذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ )
ومن أسرار حرف الجيم، ان الأجر المنسوب الى الرسول الرحيم، قد تكرر تسع مرات في القرآن الكريم، في تثليث التثليث القديم، وهنا سر لو بحثت عليه لاهتديت اليه
٧- وهكذا امتدت الأجور الى اجلين ( ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلًا ۖ وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) فإذا انتهى اجلك المعدود، في زمان الدنيا المحدود، بقي الأجل المسمى عند ربك رب الجنود ( وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ) .. ومن فضلة من فضلات (هو ) قال موسى القوي الأمين ( أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ )
٨- ( وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ) أجلت لهذا اليوم، يوم الفصل والميقات .. و ها أنت جاوزت بحر الكلمات، في طريق يبس، مفروش بالحروف النيرات، في سماء الجوزاء، فأزيلت النقط من حروف الهجاء فصارت جيمك حاءً بيضاء … تأمل في الأحدية، وسورة الإخلاص هادية هدية
وبحر الأحديه لا ينفد، الا اذا رجع موسى العقول الى الميقات، وصارت جبالك دكاً من توالي التجليات .. فصرت نقطة بهية ل ( حاء ) الأحدية، وأخذاً لطيفاً، بصيحة خفية .. عنذئذ أخذ موسى الألواح العلية المكتوب فيها ( مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ ) وكل شئ هو الله … هي من الله وهي لله ( فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ ) فإن باب ( خذ ) اذا دخله الداخل لا يأخذه الموت وان مات، ولا تأخذه سنة وان نام ( لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ )
فسبحان الله العلي العظيم.
 
بدرالدين يوسف السيمت
١٧ ابريل ٢٠٢١
إشترك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات
0
نرحب بمشاركتك في التعليقاتx
()
x