الحلقة الأولى (1)

حرف الألف

١- نظرات في حروف التكوين مرحلة جديدة من مراحل التأويل، تلي المراحل السابقة في جذوة التأويل، وبيان التأويل، والسير في طبقات العقل، والتي كانت سيراً بنور التوحيد، في ظلمات العقول
٢- الكلمات تخفي ذات الشئ، والحروف هي بذرة الكلمات وأساسها وأصلها، وهي السفن التي نعبر بها في بحور الكلمات … وبداية الحروف الألف، في اللسان العربي وفي جميع اللغات … وأصل الألف النقطة؛
وأصل جميع الورى نقطة
على عين أمر بدت أحرفا
والأمر هو ( وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ) من وراء الزمان والمكان، وهو صراط الله المستقيم، الذي يتفجر على عين واحدة، تشرب منها جميع الأكوان ( عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا )
بمعنى آخر، فإن النقطة التي هي أصل حرف الألف، تشير الى عالم الصمت واللازمن واللاشئ من أعلى، وتتمدد من أسفل، ثم تتكسح، فتصير كلمات، تتقلب قلوباً في المعاني خلف مباني السطور:
وتلك الحروف غدت كلمة
فكانت مشوق الحشا المدنفا
ومشوق الحشا المدنفا هو قلب المحبين، الذي أتعبه العشق والشوق، فظل ظاهره يتقلب في المعاني، ولكن باطنه ثابت وراء المعاني، ووراء الورى
٣- نظرة عامة لكلمات القرآن التي بدأت بحرف الألف، نجد في رأسها كلمة ( أبّا ) الواردة في سورة ( عبس ) وهي كلمة غامضة المعنى، تناسب غموض الحروف … وتلى غموض هذه الكلمة ( أبداً ) التي تشير الى الزمن، ثم إبراهيم اليقين والأمن، التي تشير الى الأبوة والى كلمة ( أب ) الواردة بتفعليات مختلفة، ويلي ذلك كلمة ( أثر ) والذي بتتبع آثارها، تجئ كلمة ( إثم ) مما يجعلنا نفهم فهما أحسن من ذي قبل، معنى ان شعورنا بوجودنا، وجولاننا في آفاقه المحدودة، هو الإثم الأكبر في قولهم “وجودك ذنب لا يقاس به ذنب”
وفي قلب الكلمات التي تبدأ بحرف الألف نجد كلمة ( أول ) المشتق منها كلمة ( التأويل ) .. وفي قلب ذلك القلب كلمة ( الله ) وبابها ( الإله ) ونداؤها الخفي ( اللهم )
٤ – قبل الخوض في تتبع تفاصيل الكلمات وأنوارها الساماقات، وردت الإشارات الى ضرورة البقاء في اللحظة الحاضرة، بملاحظة ان اللحظة المقبلة هي نفسها اللحظة المدبرة، أي انه لايوجد زمن، الا بذبذبة عقولنا، التي تجعل اللحظة الواحدة لحظتين، ثم تخزنها لحظات ولحظات فيختفي ( اللاشئ ) في ( الشئ ) وكلاهما حق واحد ولحظة حاضرة، في حق من يموت في كل لحظة، وهذا هو معنى ( اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ )… إذا داومنا على هذا الصنيع، تصير حياتنا حبلاً ممدوداً من النور، وهذا هو معنى الآية التي تليها ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ) وهو ايضاً معنى قوله ( وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) اي الى النقطة التي هي أصل كل الحروف
من يقرأ القرآن بالحضور في اللحظة الحاضرة، تزيده كل سورة إيمانًا، وهو يستبشر بالمزيد في كل لحظة ( فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ) وهم يسيرون في بناء سماء عقولهم، سمتاً مرفوعاً سمكاً سوياً، في نور أبدي، متساوي الوميض، أحَدي البريق، مثل شمس الضحى، التي أغطش ليلها بغياب وادي الظلام، خلف القرون ( أَمِ السَّمَآءُ بَناهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا )
ومن سمع القرآن بغير هذا الإنصات، فإن كل سورة من القرآن، تزيده ظلاماً وبعداً، ويموت في كل لحظة محجوباً، عن الحق بسبب مرض قلبه ( وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ )
٥- وردت في أثناء الحديث، اشارات الى قيام الحروف وتثنيها، وعلاقة ذلك بالذاكرة وبالأنوثة والذكورة في المرأة والرجل، والحركة الثالثة التي هي ثالوث سماوي، تزين الثنائية وتجملها، وتعطي بناءها معنى وقيمة ( أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ )
ويتم ذلك في سورة طبيعية فطرية، قائمة في النساء والرجال، من غير تمييز بين الناس، فهي ذاكرة قائمة نحو الله في صمت، وحنيفة اي متثنية ومائلة نحو الله في حركة، وذلك هو معنى دين الله القائم، في كل امرأة وفي كل رجل، وان كنا لا نعلم ذلك ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )
٦- كانت هناك وقفات في المعنى الإبراهيمي وأبوته للمسلمين جميعاً، وليس لمن اسموا أنفسهم عرباً، فليسمعها من شاء في موضعها من الحديث
وتخلل البيان، لمحات من معاني الأبوة بصورة عامة وما فيها من اسرار الرقم (٨) والرقم (١٢)
٧- كانت هناك وقفة على اطلال كلمة أبابيل وما فيها من غموض ( أبا ) وغموض ( إيل ) التي تعني الله
وكان ذلك على هامش تأويل سورة ( الفيل ) الرمز الواضح البين للنفس الطيبة، التي تصاحب كل إنسان… البشر بصورة عامة هم أصحاب الفيل، والسودانيون بصفة خاصة … ولقد انتقلت كلمة ( الفيل ) الى اللغة الإغريقية لتعني صاحب، ومن هنا جاءت كلمة philosophy الإنجليزية، لتعني صاحب الحكمة، ومحب الصفاء التي قلبت في اللغة الإغريقية الى صوفيا
وقد كان كيد البشر، في تضليل، في مسيرتهم الدامية حتى صاروا عصفاً
مأكولاً، بالفقر والجهل والحرب بل ب ال COVID -19
ونصيب اهل السودان كبير في هذا العصف المأكول، في هذه الأيام بالذات، التي تداعت عليهم الأمم كتداعي الأكلة على القصعة، رغم ان بعض أجدادهم قد أدبوا الأفيال … ولا يزال الفيل رمزهم القديم، موجود تمثاله، مطعوناً جريحاً في عاصمتهم القديمة في المدينة الملكية ( مروي ) المروية بماء القدس وبماء النيل
ولا يزال الامل معقوداً، ولن ينفك في ربهم، ورب بيتهم، المذكور في سورة قريش قرينة سورة الفيل ( الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ )
٨- كذلك وقفنا طويلاً في الفعل ( أتى ) الذي تم تشقيقه الى أكثر من مائة تشكيلة، تكون مرة صغيرة كحبة خردل يأتي بها الله ( يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) ومرة تكون هي الله ذاته في ظلل من الغمام ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ ) وتكون مرة ثالثة تأويل كل أولئك ( هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ).
 
وسنواصل النظر فيها في حلقة قادمة بإذن الله وعلى الله قصد السبيل…
 
بدرالدين يوسف السيمت
١٦ ابريل ٢٠٢١
إشترك
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات
0
نرحب بمشاركتك في التعليقاتx
()
x